هجرة الدراسات الإسلامية- من العالم العربي إلى آفاق جديدة

المؤلف: د. خالد عزب10.25.2025
هجرة الدراسات الإسلامية- من العالم العربي إلى آفاق جديدة

قد يبدو السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة مستغربًا للعديد من القراء، إلا أنّ الواقع الراهن يشير بوضوح إلى هجرة للدراسات الإسلامية من قلب العالم العربي نحو مناطق أخرى، إما إلى دول جنوب شرق آسيا، وبالأخص إندونيسيا وماليزيا، أو إلى دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى ظهورها المتزايد في بعض الدول الأفريقية.

إنّ الجمود الفكري الذي يعيق التطور، وملاحقة المفكرين والمجددين الذين يتحلون بالجرأة، بالإضافة إلى الحصار الذي تعانيه الدراسات الإسلامية في بعض الدول العربية، يقابلها ازدهار ملحوظ واهتمام متزايد بالدراسات الإسلامية خارج حدود المنطقة العربية.

إندونيسيا

يكمن وراء هذا الصعود للدراسات الإسلامية في إندونيسيا فلسفة عميقة. ففي كتابه "الإسلام والحداثة" الذي صدر عام 1982، يوضح المفكر الإندونيسي فضل الرحمن مالك أنّ "الديناميكيات المعقدة بين العلوم الاجتماعية المختلفة، مثل علم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا وعلم النفس، والمجتمع الإسلامي لم تحظَ بالدراسة الكافية ضمن إطار التعليم الإسلامي في مختلف أنحاء العالم، ونادرًا ما يتم التطرّق إلى الأفكار والفلسفات المعاصرة".

ويرى الإندونيسيون أنّ هذا الأمر جعل المؤسسات الإسلامية التقليدية في العالم العربي، وعلى رأسها الأزهر الشريف في مصر، عاجزة عن الاستجابة بفاعلية للتحديات المعاصرة المتزايدة. ففي بلد يضم أكثر من 1300 مجموعة عرقية، ويتجاوز عدد المسلمين فيه 225 مليونًا، يصبح البحث عن القضايا التي ترسخ السلم المجتمعي أولوية قصوى، بل تتجاوز ذلك إلى إجراء دراسات أكاديمية تؤكد التنوع مع الوحدة الوطنية، فضلًا عن مواكبة العصر. وانطلاقًا من هذا التصور، أعلنت إندونيسيا عن تأسيس "الجامعة الإسلامية الدولية الإندونيسية" المتميزة.

وعلى الرغم من وجود عدد كبير من الجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية في إندونيسيا، فإن تأسيس هذه الجامعة يمثل تعبيرًا عن عدة معطيات، أهمها أنّ إندونيسيا تمتلك الآن كوادر علمية مؤهلة تأهلت في الأزهر الشريف والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وغيرها من المؤسسات العلمية المرموقة، وقد حان الوقت لكي تضطلع إندونيسيا بدور محوري يتناسب مع ثقلها السكاني في العالم الإسلامي (حيث يمثل المسلمون فيها 13% من إجمالي المسلمين في العالم)، هذا بالإضافة إلى سعيها الحثيث لترسيخ نموذج متميز للدراسات الإسلامية يختلف جوهريًا عن النموذج السائد في المنطقة العربية.

ولذلك، فقد عمدت إندونيسيا إلى تأسيس مركز متخصص في دراسة الثقافة الإندونيسية الإسلامية وآخر يعنى بالدراسات الإستراتيجية الإسلامية في هذه الجامعة الجديدة، مستفيدة في ذلك من تجربتين ناجحتين من خارج المنطقة العربية، وهما: مركز لايدن لدراسة الإسلام والمجتمع، ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. وتسعى إندونيسيا في الوقت الراهن إلى استقطاب المئات من الطلاب من مختلف أنحاء العالم لدراسة العلوم الإسلامية في جامعاتها المرموقة.

ماليزيا

نجحت الدوريات الإسلامية العلمية المحكمة الصادرة في إندونيسيا وماليزيا باللغات المحلية والعربية والإنجليزية في جذب عدد كبير من العلماء والباحثين العرب للنشر فيها، وذلك بسبب إصرار لجان الترقيات في الجامعات العربية على أهمية التصنيف الدولي للدوريات العلمية. وقد تفوقت جامعات هاتين الدولتين في تحقيق هذا التصنيف المرموق، بينما أخفقت الجامعات العربية الإسلامية في بناء تصنيف علمي يحترم ويقدر دورياتها العلمية.

وفي ماليزيا كذلك، توجد رؤية واضحة وراء هذا الاهتمام المتزايد بالدراسات الإسلامية، وقد وضع هذه الرؤية الفيلسوف الماليزي المرموق السيد محمد نقيب العطاس (مواليد عام 1931م)، حيث صاغ مفهومًا فريدًا وهو "غرس وتلقين الأدب في الإنسان من خلال تأديب العقل والروح معًا"، وهو ما ساهم في حماية ماليزيا من ظهور جماعات متطرفة. وتضم ماليزيا ما لا يقل عن 23 جامعة عريقة تقدم تخصصات في الدراسات الإسلامية، وتعد الجامعة الإسلامية العالمية أبرز هذه الجامعات.

تدرك ماليزيا تمام الإدراك أن دورها المحوري في تحديث الدراسات الإسلامية سيقودها حتمًا إلى مكانة مرموقة في العالم الإسلامي، ولذلك فهي تعتمد على سياسة استراتيجية طويلة الأمد تقوم على تقديم المنح الدراسية السخية للطلاب المسلمين المتميزين، وهو ما جعلها نموذجًا يحتذى به كدولة إسلامية ناجحة ومزدهرة.

أوروبا

دفعت المشاكل المتلاحقة التي واجهها المسلمون في أوروبا الدول الأوروبية إلى التفكير مليًا في وضع هؤلاء المسلمين، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى التفكير العنصري. ولكن في نهاية المطاف، ومع ظهور الجيل الثالث من المسلمين الأوروبيين، والمسلمين من أصول أوروبية، أصبح الإسلام جزءًا لا يتجزأ من النسيج الأوروبي. وقد استلزم هذا الواقع أن تهتم معظم الجامعات الأوروبية اهتمامًا خاصًا بالدراسات العربية والإسلامية، و بدراسة الإسلام كدين سماوي.

وعلى عكس ما كان سائدًا في القرون من الرابع عشر إلى القرن العشرين، فإن الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوروبية يقودها الآن باحثون مسلمون متمكنون، في حين كان يقودها في السابق مستشرقون أوروبيون. وفي الوقت الحالي، تشهد أوروبا ولادة دراسات إسلامية معاصرة تجذب الانتباه بقوة. فبدءًا من دراسة المجتمعات الإسلامية المتنوعة وصولًا إلى دراسة الشريعة والفقه الإسلامي، لدينا اليوم مئات الدراسات القيمة. وقراءة متأنية لمجلة "تعارفوا" التي تصدرها الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية تكشف عن هذا التطور الملحوظ. كما أن هناك ما لا يقل عن 59 جامعة أوروبية تهتم بشكل مباشر بالدراسات الإسلامية.

لقد أصبح بناء جيل جديد من العلماء المسلمين الأوروبيين هدفًا استراتيجيًا أوروبيًا بعد أن عانت أوروبا طويلًا من تصدير المشكلات من العالم الإسلامي إليها. ولهذا السبب، نرى هذا التوجه واضحًا في المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية في بروكسل الذي تأسس عام 2010، وكذلك في كلية الدراسات الإسلامية في ألمانيا.

تجربة عبد الحكيم مراد

لم يكن أحد يتصور أن تأتي رؤية جديدة لتجديد الفقه الإسلامي من جامعة أكسفورد العريقة، حتى إن مركز "نهوض" في الكويت قام بترجمة "مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه" في مجلدين ضخمين، ليقرأه العلماء والباحثون العرب، ويصبح مرجعًا أساسيًا في دراسات الفقه الإسلامي في المنطقة العربية.

وفي السياق ذاته، يطل علينا من جامعة كامبردج أحد العلماء المسلمين المجددين، بل ممن يطرحون رؤى جديدة و ملفتة للانتباه، وهو العالم الإنجليزي المسلم عبد الحكيم مراد (تيموثي وينتر) الذي أسس مدرسة علمية مجددة وراشدة في التعاطي حتى مع الحديث النبوي الشريف، على عكس ما يطرحه بعض التنويريين العرب من تعطيل للسنة النبوية. لقد أصبح تلاميذه الذين تتلمذوا على يديه منارات تضيء دروب الإسلام في أوروبا من خلال دراساتهم العميقة. درس عبد الحكيم مراد في جامعات كامبردج ولندن والأزهر، ولديه اهتمام خاص بالسنة النبوية، كما أنه أنشأ منصة رقمية لتعليم الإسلام تلقى إقبالًا كبيرًا من جميع أنحاء العالم، ويقدم فيها دروسًا في السيرة النبوية والإمام الغزالي وقصص القرآن الكريم.

وأخيرًا، فإن صعود الدراسات الإسلامية في الولايات المتحدة يستدعي رصدًا وتحليلًا دقيقًا في ظل التزايد المستمر في عدد المسلمين هناك، بل تمركزهم في ولايات محورية مثل نيويورك وتكساس.

تشير المؤشرات الحالية إلى أن الإسلام سيكون له لغة أخرى بجانب اللغة العربية، وهي اللغة الإنجليزية. فهل نشهد قريبًا اجتهادات إسلامية عميقة باللغة الإنجليزية؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة